هذه الوصية الغالية، والكلمة الطيبة، من أهم ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وقد بعثه إلى اليمن معلماً ومرشداً، وفي الحقيقة فإنها وصية للأمة الإسلامية جمعاء، لأن هداية الخلق وإرشادهم هي غاية الشرع ومقصوده، والمراد بالهداية هنا هداية الإرشاد والتوجيه، أما هداية القلوب فلا يملكها إلا الله: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"1، "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".2
وحكم الدعوة إلى الله الوجوب العيني على من تعينت عليهم من العلماء وطلاب العلم: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"3، والوجوب الكفائي على غيرهم من عامة المسلمين حسب الطاقة.
ووسائل الدعوة كثيرة ومتنوعة ومختلفة باختلاف الداعين والمدعوين، فالدعوة إلى الله تكون بالقدوة الحسنة بالفعال والخصال قبل الأقوال، وباللسان والبنان، وبالمال والإحسان، وشروطها الصدق، والإخلاص، والعلم، والرفق، والتلطف، والحكمة: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".4
والدعوة إلى الله هي وظيفة الأنبياء والرسل وورثتهم من العلماء العاملين، لهذا فلا يحول بينهم وبين عملهم هذا حائل سوى الموت، لا يمنعهم من ذلك خوف، ولا مرض، ولا حبس، ولا غربة، فإن منعوا من الكلام، وعزلوا عن الأنام، وغربوا عن الأوطان، هرعوا إلى الكتابة، وإن حيل بينهم وبين أدواتها استعاضوا عن ذلك بما تيسر، ففي الفحم عوض عن القلم، وفي الرأس عوض عما في الكراس، وفي الحيطان والجدران عوض عن الدفاتر والليحان.
فرسولنا الكريم وإمامنا العظيم لم يمنعه خوفه من الرصد ومطاردة قريش له من أن يؤدي واجبه ويقوم برسالته، وذلك عندما التقى، وهو في طريق هجرته إلى المدينة، ببريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا5، وها هو نبي الله يوسف عليه السلام لم يمنعه الحبس والسجن من دعوة المسجونين إلى توحيد الله عز وجل، فقد استغل فرصة سؤال بعض المسجونين له عن تأويل رؤيا منامية قائلاً: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بهــا من سلطــان".6
وما فعله الرسل مارسه ورثتهم في الحبس، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وشمس الأئمة السرخسي، وغيرهما كثير، مما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يحول نقمة السجن إلى نعمة، حيث قال عندما أودع سجن القلعة بدمشق ظلماً وعدواناً: "وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب"7، وحيث سخر من صنيع أعدائه به، (فقال عندما قال له بعض المشايخ: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أونفيك، أوحبسك: "إن أنا قتِلتُ كانت لي شهادة، وإن نفيتُ كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوتُ أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبداً، وأنا مثل الغنمة التي كيف تقلبت تقلبت على صوف"، فيئسوا منه وانصرفوا).8
عليك أخي الداعية بالوسيلة الباقية، بنشر العلم، وكتابته، وتدوينه.
العلم صيد، والكتابة قيد قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
إذا أردت ألا ينقطع عملك، وأن تتصل دنياك بآخرتك: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وابن صالح يدعو له".9
لذلك فإن كثيراً من العلماء الربانيين حرصوا على الكتابة والتأليف، والفتوى والتدريس وهم في غياهب السجون، وقد منعوا من أسبابها، وحرموا من أدواتها، فجل رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية خرجت من السجن، وكتبت بالفحم، ودونت على الجدران والحيطان، منها: منهاج السنة المحمدية، الإيمان، الاستقامة، تلبيس الجهمية، الفتاوى المصرية، الرد الكبير على من اعترض على رسالة الحلف بالطلاق، والرد على الإخنائي، وغيرها كثير.
(وأملى شمس الأئمة السرخسي كتابه "المبسوط" نحو خمسة عشر مجلداً، وهو في السجن بـ"أوزجند" كان محبوساً في الجب بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وكان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في أدنى الجب وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات: "هذا آخر العبادات، بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات"، وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، أملاه المحبوس في محبس الأشرار").10
على العلماء وطلاب العلم والدعاة الاقتداء بأمثال هؤلاء الرجال، والتأسي بسير الأخيار، والتشبه بمن سلف من الأبطال، فإن التشبه بالرجال فلاح، ومن سار على الدرب وصل، كل ذلك مع حسن النية وصدق الطوية، والله الموفق للخيرات، والمقيل للعثرات، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسالات، وعلى آله وصحبه السادات، وعلى التابعين لهم في الخيرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق